تقاريرلبنان

لبنان بين الماضي المضيء والحاضر المُظلم

من يعرف لبنان في عصره الذهبي، يدرك إن لهذا البلد مميزات  وخصائص جعلت منه نموذجا” متميزا” ليس فقط في محيطه العربي، بل على مستوى العالم. فموقعه الجغرافي  أعطى( رغم صغر مساحته)، طابع ثقافي وحضاري متنوع باعتباره مفترق طرق تربط ما بين دول آسيا والبحر المتوسط.

سويسرا الشرق أطلق على لبنان، ليس فقط لنجاح نظامه المصرفي في استقطاب رؤوس الأموال العربية والأجنبية، في ظل قانون السرية المصرفية، بل ايضا” لتشابه الطبيعة الخلابة لكلا البلدين من طبيعة الجبال المكللة بالثلوح الجاذبة لمحبي التزلج ، عدا عن عراقة القطاع السياحي والفندقي المطبوع بالحفاوة والرفاهية وتقديم أفضل الخدمات التي عُرفت بالخدمات الذهبية ، ناهيك عن المساحة الواسعة لحرية الرأي والتعبير ، حيث كان لبنان ملاذا” للمفكرين والمثقفين والناشطين السياسيين الهاريبن من القمع والاضطهاد في الدول المجاورة. كما كان يُعتبر مستشفى الشرق لكفاءة الكادر الطبي والمهنية العالية  التي يتمتع بها ، جامعاته من أرقى الجامعات، إضافة إلى نمط الحياة الحيوي الذي يتمتع به، من مطاعم فاخرة، دور أزياء عالمية، مسرح، ثقافة ، فنون ، لغات وغيرها من القطاعات  الأخرى، التي كانت مقصد جاذب للسياح (خاصة العرب) . ويُعتبر لبنان من أكثر بلدان الشرق الأوسط تنوعا” من الناحية الدينية، حيث يضم 18 طائفة شكلت موزاييك متنوع قائم على التفاعل الحضاري والثقافي والديني.

لقد مرّ على  هذا البلد حروب عديدة واحتلالات وأزمات سياسية متعددة، ولكنه بقي محافظا” على وجهه الحضاري وكيانه الإقتصادي  قبل أن تقبض عليه طبقات سياسية فاسدة وناهبة للمال العام عبر المحصاصات والصفقات المشبوهة ، وهيمنة القوى الظلامية على مقدراته وتحكمها بكل مفاصل الدولة والتي بدورها أوصلت البلد إلى هذا الدرك من الإنهيار، لربطه بمصالحها ومشاريعها االمشبوهة. 

لبنان في 2021 

لقد أثرّت الصدمات الإقتصادية المتزايدة، إلى جانب جائحة كورونا على عموم المكوّن اللبناني. فاليوم، وبعد مرور ماية عام على تأسيسه، يُصنّف “وطن النجوم”  بـأسوا الدول نتيجة الأزمة الإقتصادية والمالية الغير المسبوقة التي يواجهها والتي كان سببها سوء الإدارة وعدم الشفافية وتغلغل الفساد في كل مفاصل الدولة والتي أوصلت أكثر من نصف الشعب اللبناني إلى مستوى الفقر المُدقع.

 وقد أعطى البنك الدولي صورة قاتمة جدا” حين قال ” أن لبنان يغرق نحو أسوأ 3 أزمات عالمية وأن الأزمة الإقتصادية والمالية التي واجهها لبنان هي من بين الأزمات العشر وربما من بين الثلاث الأكثر حدّة عالميا” منذ أواسط القرن التاسع عشر” ، وحمّل الطبقة الحاكمة المسؤولية بسبب “الغياب المُتعمد لإجراءات فعالة على صعيد السياسات”.

مسببات الأزمة

1 لقد أثقلت الإنقسامات السياسية والطائفية كاهل لبنان الذي أوصلته المنظومات السياسة الفاسدة والفاشلة  لمصاف الدول الأكثر مديونية في العالم. فبعد إنتهاء الحرب الأهلية (1975-1990) باشر لبنان  الاقتراض لتمويل إعاة الإعمار، عبر إعادة بناء الإقتصاد الذي يعتمد بالدرجة الأولى على الخدمات والسياحة وجذب الاستثمارات الخارجية، وهي قطاعات مرتبطة ارتباطا” وثيقا” بالوضعين السياسي والأمني وتقلباتهما، محليا” وخارجيا”. في المقابل، لم تقم السلطات السياسية بأي إصلاحات بنيوية في الإدارة والمرافق العامة بسبب المحسوبيات ونظام المحاصصة الطائفية الذي تكرّسَ بعد الحرب، مما أدّى إلى تراكم الدين وبالتالي خدمة الدين المترتبة عليه جراء الفوائد المرتفعة، تزامنا” مع انتفاخ فاتورة الإنفاق الحكومي. 

2– كبرى مسببات الأزمة الإقتصادية  وكبرى مصائب لبنان هي قطاع الكهرباء،  حيث رصدت الحكومات المتعاقبة  أكبر الإعتمادات المالية  لهذا القطاع الذي كان أبرز مكامن الهدر والصفقات، حيث كلف خزينة الدولة أكثر من 40 مليار دولار أميركي  منذ 1992، أي ما يعادل 40% من الدين العام.

3– جائحة كورونا وتداعياتها البالغة الأثر على القطاع الطبي، حيث أضعفت قدرة المستشفيات على تقديم الرعاية المُنقذة للحياة، لأن الحكومة لم تدفع مستحقات المستشفيات العامة والخاصة، علاوة على ذلك، أدّى نقص الدولار إلى تقييد استيراد الأجهزة وااللوازم الطبية الضرورية اللازمة.

4 التهريب عبر المعابر الشرعية والغير شرعية، التي استنزفت خزينة الدولة،  حيث تُقدر خسائر الدولة من الرسوم الجمركية نتيجة عمليات التهريب  نحو 600 مليون دولار أميركي، وان قيمة البضائع المهربة تُقدر بنحو مليار دولار أميركي، حسب ما أكد وزير الإقتصاد منصور بطيش لـ “العربية نت”. ومن الصعوية ضبطها ومنعها لأنها تتم برعاية وحماية وغطاء ميليشيات قوى الأمر الواقع. وعمليات التهريب لم تقتصر فقط على المواد الإستهلاكية المدعومة، بل ايضا” شملت السيارات والعملات الأجنية، تحديدا” الدولار الأميركي. في هذا الحين فرغت معظم الصيدليات من الأدوية، والمحطات من البنزين، وحتى حليب الأطفال  فُقد من الأسواق.

 5 إنفجار مرفأ بيروت المرّوع الذي وقع في 4 آب/اغسطس 2020 ، والذي دمّر نصف العاصمة، وتسبب باستشهاد أكثر من 200 مواطن، وجرح أكثر من 600 شخص، وتشريد 300,000 عائلة. وتضرر 163 مدرسة خاصة وعامة، وعطّل نصف مراكز بيروت الصحية. حيث أثرّ هذا الإنفجار  على إمدادات لبنان الغذائية ، لأن عبره يتم استيراد 85% من غذائه، وكان يستقبل سابقا” 70% من واردات لبنان. وقد أطلقت مجموعة البنك الدولي بالتعاون مع الأمم المتحدة والإتحاد الأوروبي تقييما للأضرار الناتجة عن الإنفجار التي قيمتها تتراوح بين 3.8 و4.6 مليارات دولاار ، ومن المتوقع أن تتراوح قيمة إعادة إعماره ما بين 1.8 و 2.2 مليار دولار أمير كي حتى نهاية عام 2021، بينما مصادر أخرى قدرت قيمة إعادة إعمار المرفأ بـ 8 مليارات دولار اميركي.

6– أما القطاع المصرفي يعيش أزمة سيولة وإفلاس وأزمة ثقة بدأت  في  خريف 2019 وأدت إلى تراجع حاد في تدفق السيولة، وقد توقفت المصارف عن منح المودعين اموالهم، نتيجة إقراض المصارف البنك المركزي من أموال المودعين، وقام المصرف المركزي بإقراض هذه الأموال للحكومة، التي بدورها نهبته مافياتها في صفقات مشبوهة. إضافة إلى ذلك، وضعت البنوك قيوداً على المودعين بتحديد حجم االسحوبات النقدية خاصة بالعملة الأجنبية. 

هذا غيض من فيض للتقصير والإهمال والفساد والنهب الذي اتبعته ومارسته المنظومات السياسية المتعاقبة، ورفضاً لهذا الواقع المرير، انتفض الشعب اللبناني في 17 تشرين 2019 بصورة أذهلت العالم، مطالباً برحيل الطبقة السياسية التي نهبت البلد، و مطالبا بتشكيل حكومة تكنوقراط للقيام بإصلاحات في كافة القطاعات، (مالية واجتماعية وصحية وقضائية الخ….)، ولكن مليشيات السلطة انقضّت عليها، ومارست أبشع أنواع الإنتهاكات بحق المنتفضين، لتأتي لاحقاً جائحة كورونا  لتفرض  إجراءات الحجر منعاً وتجنباُ لإنتشار الوباء. حيث أُجبرت الناس على المكوث في المنازل لفترات طويلة. اليوم تعود الحيوية إلى الشارع ولو بوتيرة أخفّ، لإعلاء الصوت والصرخة بوجه السلطة السياسية الفاقدة للكفاءة  والرغبة في إيجاد حلول تُنقذ البلد واهله من هذا المهوار الخطير.

وفي هذا الإطار، قالت نجاة رشدي، نائبة المنسقة الخاصة للأمم المتحدة في لبنان ” أن أزمة الاقتصاد، وانخفاض قيمة العملة، فضلا” عن فراغ الإدارة، أدت إلى انهيار الخدمات العامة في وقت تشتد الحاجة اليها، وأيضا جائحة كورونا أدت إلى تفاقم الوضع الذي كان هشا” أصلا”، مضيفة “إن الإصلاحات لم تُنفذ في الوقت المحدد ، حيث كان المفروض أن تبدأ ما بين عامي 2018-2019”.

ففي الفترة مابين نيسان /أبريل 2019 ونيسان/أبريل 2021، ارتفع مؤشر أسعار المستهلك بأكثر من 208% وارتفع سعر المواد الغذائية  بنسبة 670% . نتيجة لذلك يعيش أكثر من نصف اللبنانين في حالة فقر. فقد بلغ معدل البطالة نهاية 2020 نحو 39,5% ، وفق دراسة أجراها البنك الدولي وبرنامج الأغذية العالمي.  وسُجل خلال عام 2020 انكماشاً في الناتج المحلي بنسبة 25% وفق الصندوق الدولي. وبلغ الدين العام في نفس العام قرابة 100 مليار دولار، أي ما يعادل 171،7% من الناتج الإجمالي المحلي.

تداعيات الإنهيار بالأرقام والتقديرات المتوفرة على الشكل التالي :

تقدر نسبة الفقر بـ 55% من اللبنانيين حسب الأمم المتحدة ، منهم 25% تحت خط الفقر ، أي على أقل من 3،84 دولار أميركي، وهؤلاء لا يكفي دخلهم لتوفير الحد الأدنى من الحاجيات الأساسية، و30% يكفي دخلهم لتوفير الغذاء ولكنهم يعانون من ظروف معيشية صعبة في السكن والملبس والتعليم وغيره….، وأن 45 % من اللبنانيين لا يتمتعون بأية تغطية صحية، الخدمات الأساسية كالمياه، غير متوفرة في كثير من الوحدات السكنية، تدنى مستوى التعليم الرسمي، فقد انتقل خلال العام الدراسي 2020/2021  حوالي 54 الف طالب من المدارس الخاصة إلى المدارس الرسمية، إضافة إلى الطلاب المتسربين لا سيما من الأسر الأكثر تهميشا”، وفق البنك الدولي.  في حين أن نحو 5% فقط من اللبنانيين هم من الأثرياء والأغنياء الذين لم يتأثروا بالأزمة الإقتصادية.

هذه  الأزمة الكارثية والمتمادية استنزفت الناس وودائعهم ، كما فاقمت من معدلات التضخم والفقر والبطالة، وتسببت بهبوط مروّع  وغير مسبوق لليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي، حيث فقدت 90% من قيمتها منذ بدء الأزمة الإقتصادية. حيث تخطى سعر الصرف في السوق السوداء 15,000 ليرة لبنانية بعدما كان ثابتا” لسنين عديدة على سعر 1507 ل.ل. إحدى أخطر تداعيات الإنهيار المالي وانخفاض سعر صرف الليرة، تراجع الحد الأدنى للأجور  إلى 45 دولاراً أميركياً ، بينما كان 450 دولارا”، (أي ما يعادل 675 االف ليرة لبنانية) عام 2019، وسينخفض أكثر مع كل انخفاض على سعر الصرف. وبلغ معدل البطالة نهاية 2020 نحو 39،5%، وفق دراسة أجراها البنك الدولي وبرنامج الأغذية العالمي. 

وفي السياق نفسه، ونتيجة لهذه الأزمة الغير مسبوقة الذي يواجهها لبنان في مصارعة الإنهيار الاقتصادي والمالي، تعمل المنظمات الدولية على المساعدة والدعم تجنباً للإنهيار الكلّي، حيث قدرت الأمم المتحدة أنه خلال الأشهر الثمانية المقبلة، هناك حاجة إلى حوالي 300 مليون دولار أميركي لتغطية الإحتياجات الأساسية لمليون ونصف لبناني، و400 الف عامل مهاجر متأثرين بالأزمة المستمرة.

استراتيجية حلول

يتطلب إعادة بناء لبنان على نحو افضل، اتخاذ إجراءات سريعة وحاسمة، لا سيما فيما يتعلق بالإصلاح. ومن الضروري أن يتبنى لبنان استراتيجية موثوقة ومنسقة للإستقرار المالي الكلي وان يضعها موضع التنفيذ. وتستند هذه الاستراتيجية حسب مجموعة البنك الدولي والاتحاد الأوروبي إلى ما يلي:

1-برنامج لإعادة هيكلة الديون يهدف إلى تحقيق القدرة على تحمل أعباء الديون على المدى المتوسط.

2-إعادة هيكلة شاملة للقطاع المالي لإستعادة ملاءة القطاع المصرفي.

3- إطار جديد للسياسة النقدية لإعادة بناء الثقة والاستقرار في أسعار الصرف.

4-إجراء تصحيح تدريجي لأوضاع الماالية العامة من أجل استعادة الثقة في سياسة المالية العامة.

5-إصلاحات معزِّزة للنمو.

6-تعزيز الحماية الإجتماعية.

لتطبيق بنود هذه الاستراتيجية، ينبغي أن يولي لبنان الأولوية لبناء مؤسسات أفضل وحوكمة رشيدة، وبيئة أفضل لأنشطة الأعمال، إلى جانب إعادة البناء المادي. إن المساعدات الدولية والاستثمارات الخاصة تمثل ضرورة لا غنى عنها لتحقيق التعافي الشامل. وسيتوقف مدى وسرعة تعبئة المساعدات والاستثمارات على قيام السلطات في لبنان وبشكل سريع بإصلاحات المالية العامة والبنية الإقتصادية والإجتماعية التي تشتد الحاجة اليها، ومن دون ذلك، لا يمكن تحقيق التعافي وإعادة الإعمار على نحو مُستدام، وستستمر الأوضاع الإجتماعية والإقتصادية في التدهور.

في الخلاصة،  تركَ هذا الوضع الإقتصادي الجحيمي اثر كبير على معظم شرائح المجتمع اللبناني وعلى أنماط حياتهم ومعيشتهم، حيث فقد الكثيرون وظائفهم وتبخرت مدخراتهم وشقى عمرهم، في ظل تقاعس المنظومة الحاكمة عن إيجاد حلول تُخرج الناس من هذا النفق المجهول عبر تشكيل حكومة إنقاذ ، مهمتها تطبيق الإصلاحات وتوفير الإحتياجات الأساسية مثل الغذاء والصحة والتعليم وتأمين الكهرباء، لأنها دونها تُعتبر هذه الحال من أبشع وأسوأ انتهاك لحقوق الإنسان. وقد قال المنسق العام الخاص للأمم المتحدة في لبنان، يان كوبيش ، في تغريدة له  في هذا الخصوص:

 ” لا تراهنوا على أن صبر اللبنانيين بلا حدود، يكفيهم ما يعانون من غياب تام للإصلاح بداية من قطاع الكهرباء ومروراً بغياب الرؤية الموحدة والجهد الحقيقي لمواجهة الإنهيار ووصولا لبؤسهم المتزايد”.

إن لبنان يمر بمخاض عسير ، ولا بد أن يعود له حضوره وحيويته ودوره الطليعي، وتعود عاصمته بيروت “لؤلؤة الشرق وأم الشرائع” إلى إشعاعها. وكما قال نزار قباني:

” إن كوناً ليس لبنان فيه، سوف يبقى عدماً أو مستحيلا ” 

نعمت بيان – مستشارة المرأة والطفل في المنظمة العربية لحقوق الإنسان في الدول الاسكندنافية

المصادر:

https://news.un.org/ar/story/2021/06/1077932

https://www.albankaldawli.org/ar/country/lebanon/overview

https://www.hrw.org/ar/world-report/2021/country-chapters/377384

https://www.alarabiya.net/aswaq/economy/2021/03/17/%D9%84%D8%A8%D9%86%D8%A7%D9%8monthlymagazine.com/ar-article-desc_5008_لبنان-بين-الأرقام-والمظاهر-والوقائع،-أين-الحقيقة

Show More

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button