الأمم المضطهدةالعالمحقوق الإنسان

لماذا أصبحنا دولا” هشّة وفاشلة؟؟؟

مع كل تقرير دولي أو دراسة أو إحصاء  أو تقييم لنشاطات اقتصادية، اجتماعية، صحية، ثقافية، إنسانية، سياسية وحقوقية  وغيرها من النشاطات، تأتي  العديد من الدول العربية على لائحة التصنيف السلبي التراجعي (السيء)، مع إن معظم هذه الدول لديها موارد هائلة تؤهلها لتكون بمصاف الدول المتقدمة عبر تطوير نظمها الإجتماعية والإقتصادية  والتعليمية والإنمائية والصحية وتأمين الرفاهية لشعوبها، وتحقيق العدالة الإجتماعية ، إلا أن سوء الإدارة واستغلال موارد الدولة للمصلحة الشخصية دونها من المصلحة العامة  وعدم كفاءة السلطة الحاكمة ، أوصلها إلى أن تُصنف يالدول الهشة أو الرخوة أو الفاشلة.

 فقد نشر صندوق السلام الأميركي بالتعاون مع مجلة فورين بوليسي تقريره الجديد لعام 2020 المتخصص في تصنيف الدول الهشة أو الفاشلة، والذي شمل 178 دولة حول العالم من بينها 20 بلدا” عربيا”.  الغاية من إصدار هذا المؤشر إثارة النقاش حول تطوير الأفكار المساعدة للإستراتيجيات الهادفة إلى تحقيق السلام الدولي.  ويُعرّف التقرير الدول الهشة، هي تلك التي لديها قدرة متدنية لإتمام وظائف الحكم، وتعاني من أزمات داخلية وخارجية على الصعد السياسية والإقتصادية والإجتماعية، ناهيك عن تفشي الفساد السياسي والمالي في نظمها. ورغم إختلاف الظروف ببن الدول الهشة داخليا”، إلا  أنها تشترك بسمة واحدة هي تفشي متلازمة الفقر والبطالة والفساد وانعدام الأمن. 

اعتمد التقرير  على 12 مؤشرا”يستند عليها كمعايير لتصنيف الدول الهشة والفاشلة أو التي تتمتع بالتماسك والقوة. من هذه المؤشرات :

1-الإجتماعي : ويشمل الضغوط السكانية واللاجئين والنازحين، ثم المظالم الإجتماعية والهجرة الخارجية وهجرة الأدمغة، الفقر والبطالة والجريمة والمخدرات والسرقة….

2- السياسي والعسكري، الذي يتضمن شرعية السلطة والخدمات العامة وحقوق الإنسان وسيادة القانون والأجهزة الأمنية وتصدّع النخب  والصراعات فيما بينها، فقدان الثقة بالدولة ومؤسساتها، والتدخل الخارجي الذي يُسهم في إخفاق الدول في أداء وظائفها الأساسية. 

3-الإقتصادي، الذي يشمل التنمية الإقتصادية الغير متكافئة ما بين المجموعات أو المناطق في البلد الواحد ( الإنماء الغير المتوازن)،  والتدهور الإقتصادي الذي يعني  ركود في الدورة الإقتصادية وانهيار قيمة النقد الوطني ( كما هي الحال في لبنان اليوم)..

وحسب التقرير تصدّرت ليبيا الدول الهشة، حيث جاءت في المركز 20 عالميا”، تلتها موريتانيا التي حلّت في المرتبة 33 عالميا”، تليها الجزائر في المركز 71 عالميا”، بينما حلّت المغرب وتونس في المركز 95 عالميا” . أما  التصنيف الأسوأ فقد شمل اليمن والصومال وجنوب السودان وسوريا كدول أكثر هشاشة” إذ وضعها التصنيف في خانة الإنذار المرتفع جدا”. 

لماذا  تُصنف بلداننا  الغنية بالموارد البشرية والمادية بالدول الهشة أو الفاسدة وما مصلحة السلطات الحاكمة في إضعاف الدولة؟

يقول عالم الإجتماع ابن خلدون صاحب أهم وأقدم نظرية حول بناء الدولة ومقومات صعودها وانهيارها،  أن “الظلم مؤذن بخراب العمران“، يشرح فيه كيف تصل الدول إلى الظلم الطاغي وآثار هذا الظلم على المجتمع والناس والعمران. وكأن ابن خلدون الذي كتب نظريته سنة 1377 ميلادي ، أي منذ 644 سنة وكأنه يحيا بيننا اليوم لدقة الحالة التي وصلت اليها بعض البلدان من انهيارات نتيجة تفشي الظلم والفساد والإرتهان للخارج وتغليب المصلحة الشخصية على المصلحة الوطنية والقومية كالذي يحصل على صعيد المثال في العديد من دولنا العربية وتحديدا” لبنان وسوريا والعراق واليمن وليبيا.. 

ويعتبر ابن خلدون أن الدول تمر بعدة مراحل/تطورات من ناحيتين هما: الناحية الأولى،  الأحوال العامة التي تشمل السياسة والإقتصاد والعمران والأخلاق،  والناحية الثانية تشمل حال العظمة والقوة والإتساع. ويقرر أن كل دولة تنتقل بين خمسة أطوار : الظفر، الإنفراد  بالمجد، ثم الفراغ والدعة، ثم طور القنوع والمسالمة، ثم الإسراف والتبذير. ويربط  أطوار الدولة الخمسة بثلاثة أجيال فقط:

1-الجيل الأول يقوم بعملية البناء والعناية.

2-الجيل الثاني يسير على خطى الجيل الأول من التقليد وعدم الحيد.

3-أما الجيل الثالث والأخير فيمكن تسميته بالجيل الهادم لما بنته الأجيال السابقة، (وهذا ما ينطبق على واقعنا اليوم حيث تشهد العديد من الدول حالة الإهتراء من جراء اتباع الجيل الثالث سياسة إضعاف مكونات الدولة وشلّها) .

فبعد مرحلة البناء والعرق في زمن الجيل الأول، تتحول الدولة إلى الإستقرار والهدوء على يد الجيل الثاني ، وتبدأ المنشآت الحضارية والعمرانية بالبزوغ، لكن في هذه المرحلة تنزلق الدولة إلى الاستبداد وحكم الفرد.  فبعدما كان الجميع يشترك قي الحكم بشكل أو بآخر في الجيل الأول المؤسس للدول والحضارات، تنتقل إلى “انفراد الواحد وكسل الباقين عن السعي فيه، ومن عزّ الاستطالة إلى ذل الإستكانة، فتنكسر صورة العصبية بعض الشيء، وتؤنس منهم المهانة والخضوع”. وكما تكون العصبية “الفئة” مسؤولة عن قيام الدولة وديمومتها، فانها تكون أيضا” السبب الأبرز للسقوط والإنحدار. 

* أما أسباب السقوط  فيردّها ابن خلدون إلى عوامل عدة أهمها : الترف والإستبداد بالحكم:

فالجيل الأخير أو الثالث الذي تسقط في عهده الدول وتنهار الحضارات، هو الجيل أو النخبة الحاكمة التي تحرص في سلوكها السياسي والأخلاقي على الطمع والترف، وينتقل الشعور بالمسؤولية الإجتماعية والسياسية والعسكرية والاقتصادية التي تقلّدوها منذ زمن التأسيس إلى شعور آخر، إلى نخبة تدوس الجميع من أجل مصالحها وترفها الزائد ورفاهيتها دون غيرها. ويقول عن هؤلاء : “يبلغ فيهم الترف غايته بما تبنقوه ( تقلبوا فيه) من النعيم وغضارة العيش، فيصيرون عالة على الدولة، ويحاولون إظهار القوة من خلال احتكار السلاح والجيش ، وذلك لقمع الناس إذا أرادوا ثورة ومواجهة إستئثار هذه النخبة الحاكمة للسلطة والثروة . ولا تجد هذه النخبة المترفة، المثقلة بالمال والدعة والقوة المسلحة، أمام الجماهير المطالبة بحقوقها إذا خرجوا ناقمين على هذا الظلم والإستئثار، إلا طلب الدعم من القوى الخارجية التي بدورها تجد في مثل هذه الأنظمة مصلحة سياسية في استمرارها وبقائها وقهرها لشعوبها”.  

 من منظار ابن خلدون أن الترف هو المسبب الأبرز في سقوط الدول، عن طريق النخبة الحاكمة التي ترفل في النعيم متناسية آلام شعوبها، فتستقوي عليهم بالقوة المسلحة كلما دعت الضرورة لإسكاتهم وإقصائهم بكل الوسائل ليبقى وحده دون منازع (لبنان)، فإنه يؤكد أن الاستبداد ” والانفراد بالمجد” هو السبب الثاني الذي يؤدي للسقوط. 

وعن دور الجماهير يقول ابن خلدون ،”أما الجماهير أو عامة الشعب فأنهم ينقسمون إلى نوعين أثناء الصراعات” : 

– شعب يستطيع أن يتدخل ويتجاسر للقضاء على هذه الفئة بالكلية، مكونا” عصبية جديدة (فئة) تستلم زمام الحكم وتملأ فراغ المتصارعين وتستغل اللحظة الحاسمة.  

-و نوع آخر من الشعب الذي طال عليه الأمد في الإنقياد والتسليم، لا يعبأ بما يحدث، ولا يهتم بما يدور، يسلم أمره للحاكم دون الإهتمام بالمصالح الوطنية العليا.

ما أورده ابن خلدون ينطبق كليا” على واقعنا الحالي خاصة بما يتعلق بالجيل الثالث الهادم لكيان الدولة أو إسهامه في إضعاف البنيان المؤسساتي للدولة والمتمثل  بإمساك منظومات سياسية فاسدة للسلطة. هذه السلطات قائمة على الإستفراد والمحاصصة وسرقة المال العام  وعدم إحترام القوانين وتجاوز الدستور والعمل بأعراف مبتدعة تخدم مصلحة هذه السلطات كما هي الحال في لبنان. هذا ما يؤكده عالم الإقتصادي السويدي غونار مردال الذي عرّف  الدولة الضعيفة  “بالدولة الرخوة ” على أنها “تلك الدولة التي تضع القوانين ولا تطبقها، ولا أحد يحترم القانون، وإن الكبار لا يبالون به لأن لديهم من المال والسلطة ما يكفي ليحميهم منه، والصغار يتلقون الرشاوى لغض البصر عنه. ورخاوة الدولة تشجع على الفساد، وانتشار الفساد يزيدها فسادا”. والفساد ينتشر في السلطتين التنفيذية والتشريعية، حتى يصل إلى القضاء والجامعات، ويصبح  الفساد في ظل (الدولة الرخوة) أسلوب حياة، ومن أهم سمات هذه الدولة  حسب مردال:

-عدم احترام القانون وضعف ثقة المواطنين به، وكثير ما يُطبق على الذين يحاربون الفساد.

-وجود مؤسسات حكومية أكثر من اللازم ومن دون  دور واضح إلى درجة تتداخل وتتشابه معها صلاحيات المؤسسات وهدفها خلق مناصب للمحسوبين.

-نسيج اجتماعي منقسم.

-انهيار البنية التعليمية المدرسية والجامعية (العراق ، اليمن ، ليبيا…).

– غياب الشفافية وعدم الفصل بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة، وخاصة بين المال العام والمال الخاص.

اليست هذه العوامل  مجتمعة”   ما تعاني منها دول عربية عدة، على سبيل المثال لا الحصر، لبنان، سوريا، العراق ، اليمن…؟؟؟؟؟

إذا” الترهّل في كيان الدولة يعود بالدرجة الأولى إلى عدم تمتع الدولة بالشرعية اللازمة للحكم وانعدام تداول السلطة فيها، وتفشي الفساد الإداري في أجهزتها ومؤسساتها، إضافة إلى غياب النظم القانونية وتسييس القضاء وعدم المحاسبة.  ناهيك عن الإنقسام المجتمعي وحدّة الصراعات الطائفية والعرقية المهددة للوحدة الوطنية عبر  سيطرة القوى الميليشياوية  على مؤسسات الدولة وتغلغلها فيها وتسخيرها لمصالحها الفئوية على حساب المصلحة العامة وتكريس الثقافة الطائفية على حساب الثقافة الوطنية الجامعة. يُضاف اليها مسببات خارجية، أهمها الإحتالالات أو بالأحرى إستجلاب الإحتلالات (العراق، ليبيا، سوريا ….) التي تعمل على  إضعاف أنظمة الحكم في هذه الدول لسلب إرادتها السياسية السيادية، واستغلال مواردها وسرقة ثرواتها ليسهل التدخل في شؤونها وفرض الشروط عبر الإكراه ، وعدم قدرة الحكومة المركزية تأمين حدودها من الإختراقات الخارجة سواء حدودها البرّية أو مياهها الإقليمية أو مجالها الجوّي ( كما هي الحال قي لبنان الذي لم يُشمل في التصنيف). وبالتالي إعلانها دولا” فاشلة.

في الخلاصة، إن مفهوم “الدولة الفاشلة أو الهشّة/الرخوة” واسع النطاق ومتشعب جدا” لتعدد اسبابه والنظريات والأراء حوله. لكن يمكن القول أن مفهوم الدولة الضعيفة /الهشة والفاشلة  يختلف بين دولة وأخرى ، إذ إن هناك دولا” ضعيفة إلى حد الفشل لأسباب داخلية، بينما هناك دولا”  أخرى أوصلتها الأسباب الخارجية  عمدا” لتكون ضعيفة لتُصنّف فاشلة، لأن قوتها تضرّ بمصالح الدول الكبرى القوية والمهيمنة على العالم،  حيث تستخدم هذه الدول قوتها بكل الوسائل المُتاحة للتدخل في شؤون الدول الأخرى بهدف تحقيق أهداف سياسية وعسكرية واقتصادية ، مثال على ذلك العراق، الذي شكلّ  في سبعينات القرن الماضي نموذجا” فريدا” بين الدول العربية، حيث كان يمتلك نظاما” تعليميا” صُنّف من أفضل أنظمة التعليم في المنطقة حسب تقييم الأمم المتحدة وقتذاك، حيث اصبحت نسبة الأمية تقريبا” صفر، إضافة إلى النظام الإجتماعي-الإقتصادي الذي ضاهى النظم المتطورة في الدول الغربية المتقدمة. وهذا يدل على حكمة ووعي القيادة السياسية وقتذاك لحاجات شعبها وتحليّها بروح المسؤولية الوطنية العالية، حيث عملت على تسخير الموارد والثروات الوطنية للتطوير الصناعي والإقتصادي والعلمي والصحي  وغيرها من المجالات، عبر بناء الجامعات (التي كانت تُعتبر الأفضل على الإطلاق) والمدارس والمستشفيات والمصانع  كما عززت ودعمت مشاريع الإصلاح الزراعي  الخ…. حيث انتفت ثقافة الفقر والجهل والأمية والبطالة وارتقى العراق إلى مصاف الدول المتقدمة. هذا الواقع أخاف دول الإستعمار وجعلته هدفا لسياساتها العدوانية  حيث جعلته بلدا” مفككا” ومفتتا” وفاشلا”حيث اصبح الرقم المتقدم جدا” على لائحة الدول السيئة أو الضعيفة او الفاشلة…

نعمت بيان _ مستشارة المرأة والطفل في المنظمة العربية لحقوق الإنسان في الدول الإسكندنافية

مصادر:

https://www.aljazeera.net/blogs/2019/1/30/%D9%83%D9%8A%D9%81-%D8%AA%D9%86%D8%A8%D8%A3-%D8%A7%D8%A8%D9%86-%D8%AE%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%86-%D8%A8%D8%A3%D8%AD%D8%AF%D8%A7%D8%AB-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84

Show More

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button