الطفلالعالمحقوق الإنسانفلسطين

 غزّة أمثولة الصمود أمام أخطر أزمة إنسانية يشهدها العصر الحديث

في كل الحروب يحدث قتل ومجازر وتهجير وحصار وتجويع، وفي كل الحروب يحدث أن يتجاوز المتحاربون قوانين الحرب التي تنص عليها المواثيق الدولية، وفي كل الحروب عادة ما يكون الأطفال بشكل خاص وقودها وضحاياها بالدرجة الأولى، على سبيل المثال لا الحصر، ما حلّ في أطفال العراق وسوريا واليمن وليبيا وقبلها الأحواز العربية وفلسطين المحتلة نتيجة الاحتلالات المباشرة والغير مباشرة تبين فظاعة الثمن الذي يدفعه الأطفال نتيجة هذه النزاعات والحروب. 

لكن عندما نتحدث عن أطفال فلسطين فالأمر مختلف بعض الشيء. فأطفال فلسطين يكتبون التاريخ بدمائهم البريئة، ويعطون أمثولة للعالم عن التحلي بالصبر والثبات والإيمان في مواجهة أعتى جيوش العالم إجراما”. فهذا الكيان الدموي تجاوز لس فقط المواثيق والقوانين الدولية، بل لم يترك نوع من أنواع الجريمة إلا وانتهكها في حق الشعب الفلسطيني عامة وأهل غزة خاصة تحديدا” الأطفال.  

ولكن من جانب آخر ورغم تحلّي أهل غزّة، بأطفالها ونسائها وشيبها وشبابها بالإيمان والصبر والقوة والثبات، إلا أن ما يواجهه أهلها بالأخص الأطفال، وصل إلى حد أن غزّة أصبحت أخطر مكان في العالم للأطفال حسب وصف منظمة اليونيسف، حيث جاء في تقريرها في 19 كانون الأول/ديسمبر 2023” أن قطاع غزة هو أخطر مكان في العالم للطفل” وإن هذا الواقع الوحشي يتعزز يوما بعد يوم”.

الوضع الإنساني الكارثي للنازحين

لقد أوضح المتحدث باسم منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) جيمس الدِر في مؤتمر صحافي عقد في جنيف خلال الشهر الحالي، “أنه تم قصف مستشفى ناصر في مدينة خان يونس، وهو أكبر مستشفى متبق يعمل بكامل طاقته مرتين”، وأضاف “أن المستشفى لا يؤوي فحسب أعدادا كبيرة من الأطفال الذين أصيبوا بالفعل بجروح خطيرة في الهجمات على منازلهم، وإنما أيضا مئات النساء والأطفال الذين يبحثون عن الأمان”. وأضاف الدِر” أن الأطفال وأسرهم ليسوا آمنين في المستشفيات أو في الملاجئ. وهم بالتأكيد ليسوا آمنين فيما يُسمى بالمناطق الآمنة”. وأوضح أن الأمم المتحدة قد حذرت من شهر إن تلك المناطق لا يمكن أن تكون آمنة أو إنسانية عندما يتم الإعلان عنها من جانب واحد”. ويضيف الدِر أنه “بموجب القانون الدولي، يجب أن يتمتع المكان الذي يتم إجلاء الناس إليه بموارد كافية للبقاء على قيد الحياة بما فيها المرافق الطبية والغذاء والمياه”

وأشار المتحدث باسم اليونيسف إلى عدم وجود صرف صحي في تلك ” المناطق المزعومة آمنة“. حيث يوجد في المعدّل الوسطي حوالي مرحاض واحد لـ 700 طفل وعائلة في قطاع غزّة حاليا”، وأن نقل العائلات إلى أماكن لا تتوفر فيها مراحيض، يدفع العشرات من الأشخاص إلى قضاء حاجاتهم في العراء، وهذا الحال الغير مستوفي للشروط الصحية سيؤدي حتما” إلى انتشار الأمراض والأوبئة، كما أن حالات الإسهال عند الأطفال تزيد عن 100.000 حالة، إضافة إلى حالات أمراض الجهاز التنفسي بين المدنيين تزيد عن 150.000 حالة، وهذه الأرقام هي أقل من الواقع الفادح!

كما حذرت اليونيسف من ارتفاع معدلات سوء التغذية بين أطفال غزة (نتيجة منع العدو من إدخال المساعدات الغذائية اللازمة إلى القطاع)، حيث أصبحت أمراض الإسهال مميتة، وإن أكثر من 130.000 طفلا” الذين تتراوح أعمارهم بين أقل من عام و23 شهرا”، لا يحصلون على الرضاعة الطبيعية المنقذة للحياة وممارسات التغذية التكميلية المناسبة لأعمارهم، بما في ذلك مكملات المغذيات الدقيقة.

في ظل هذا الوضع الخطير، أي بدون وجود ما يكفي من المياه الصالحة للشرب والغذاء والصرف الصحي التي لا يمكن تحقيقها إلا من خلال وقف إطلاق نار إنساني، فإن وفيات الأطفال بسبب الأمراض يمكن أن تتجاوز أولئك الذين قتلوا في عمليات القصف”، حسب اليونيسف.

يُذكر أن عدد الشهداء لتاريخ كتابة هذه السطور، تجاوز ال 21000 شهيدا” جلهّم من الأطفال والنساء، وعدد الجرحى أكثر من 54000 مصابا” ناهيك عن عدد المفقودين، وهو رقم كبير جدا” لفترة حرب وجيزة، حيث لم يشهد العالم حربا” بقصر هذه الفترة مع هذه الأرقام الخيالية من الشهداء والمصابين والمشردين…

فشل وعجز منظمات الأمم المتحدة عن القيام بدورها!   

لم تبق مؤسسة أو منظمة دولية حقوقية كانت أم إنسانية أو طبية إلا وأعلت الصوت وانذرت عن فظاعة الواقع الميداني للنازحين وخطر الأزمة الإنسانية في غزّة. فقد وصف مفوض الأونروا فيليب لاز اريني الوضع بأنه “يقشعر له الأبدان”، وذكرت منظمة الصحة العالمية أن الوضع “يخرج عن السيطرة”، وحذرت منظمات مثل أطباء بلا حدود والهلال الأحمر والصليب الأحمر، إضافة إلى بيان مشترك صادر عن اليونيسيف ومنظمة الصحة العالمية وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي وصندوق الأمم المتحدة للسكان وبرنامج الأغذية العالمي من حدوث انهيار إنساني خطر، وإن الأزمة الإنسانية والصحية في غزة، “وصلت إلى أبعاد كارثية”.  كما وصف رئيس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة فولكر تورك، أن معبر رفح بأنه ” بوابات كابوس حقيقي”، كما صرح الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش أن غزّة “أصبحت بسرعة مقبرة للأطفال”.

المؤسف أن كل هذه التحذيرات لم تجد لها صدى، نتيجة الفيتو الأميركي على أي قرار لوقف الحرب وإدخال المساعدات الإنسانية وتعنت الكيان الصهيوني في عدم تسهيل دخول المساعدات الملحة واستمراره في عدوانه الجنوني على القطاع. 

الأسرى، تعذيب وإذلال                                                                                                                                 الاحتلال الصهيوني لم يكتف بانتهاكات القتل والتهجير والتجويع، ليضيف إلى سجله الدموي جريمة معاملة الأسرى الفلسطينيين معاملة مهينة ومُذلة للكرامة الإنسانية، إن كان في الضفة الغربية او في قطاع غزّة.  فقد أفاد مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة، بأن قوات الاحتلال اعتقلت مئات الرجال والفتيان المقيمين في الأماكن العامة والمدارس التي تُستخدم كأماكن إيواء للنازحين وكذلك المنازل الخاصة في شمال القطاع. ويُعامل الأسرى معاملة مهينة تتعارض مع اتفاقية جنيف بشأن أسرى الحرب، والتي تنص المادة (3) فيها على التالي:

فقرة (أ): يمنع الاعتداء على الحياة والسلامة البدنية، وبخاصة القتل بجميع أشكاله، والتشويه، والمعاملة القاسية، والتعذيب.                                                                                                                                                  فقرة (ج): يُمنع الاعتداء على الكرامة الشخصية، وعلى الأخص المعاملة المهينة والحاطّة بالكرامة.

إن الكيان الصهيوني لا يُعر أي اهتمام لأي ميثاق دولي، فهو ينتهج نفس الأسلوب المهين والمُنتهك لكرامة الإنسان الذي مارسته قوات الاحتلال الأميركي بحق المعتقلين العراقيين في سجن أبو غريب. حيث تم تجريد المعتقلين الفلسطينيين من ملابستهم وتقييد أيديهم وأمرهم بالجلوس على ركبهم في مناطق مفتوحة، وتعرضهم للضرب والمضايقة وحرمانهم من الاحتياجات الأساسية في حين تم تداول صورهم على وسائل التواصل الاجتماعي، حسب ما أظهره تقرير لمكتب تنسيق الشؤون الإنسانية.

في السياق ذاته، أفاد بيان لمنظمة العفو الدولية في 9 تشرين الثاني/نوفمبر 2023، قالت فيه أن ” السلطات الإسرائيلية اعتقلت أكثر من 2200 فلسطيني وفلسطينية، إضافة إلى الذين سبقهم من أسرى فلسطينيين في سجون الاحتلال، الذين يتعرضون لحالات مروعة من التعذيب والمعاملة المهينة، على سبيل المثال لا الحصر، الضرب المبرح واذلال المحتجزين، بما في ذلك إجبارهم على إبقاء رؤوسهم محنية والركوع على الأرض أثناء تعداد السجناء وإرغامهم على غناء أغانٍ مؤيدة لإسرائيل”. وقد زاد عدد المعتقلين بعد 7 أكتوبر بشكل كبير، حسب ما أفادت بهمديرة المكتب الإقليمي للشرق الأوسط وشمال إفريقيا، هبة مرايف: 

” لقد شهدنا خلال الشهر الماضي ارتفاعا” هائلا” في استخدام إسرائيل للاعتقال الإداري، أي الاحتجاز بدون تهمة أو محاكمة قابلا للتجديد إلى أجل غير مسمى، والذي كان أصلا” في أعلى مستوى له منذ 20 عاما” حتى قبل التصعيد الأخير في 7 أكتوبر. ويشكل الاعتقال الإداري إحدى الأدوات الرئيسية التي تفرض إسرائيل من خلالها نظام الفصل العنصري- الأبارتهايد ضد الفلسطينيين”. 

        ما تشهده ساحات غزّة منذ عملية طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول، لم تشهده حرب سابقة، حيث أطاح العدوان الصهيوني الهمجي بالبشر والحجر، هو ليس فقط تجاوز كل المواثيق والقوانين الدولية، الإنسانية والحقوقية، بل وصل به الأمر إلى ارتكاب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي بحق الشعب الفلسطيني، ولم يترك جريمة من الجرائم التي نص عليها نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية، ولا حتى تلك التي نصت عليها اتفاقيات جنيف الأربع، ولا أية جريمة نص عليها ميثاق أو عُرفٌ دولي إلا وارتكبها. فقد مارس جرائم الإبادة الجماعية، والجرائم ضدّ الإنسانية، وجرائم الحرب، والتهجير القسري، واستهدف المستشفيات والمرافق الصّحية ودور العبادة والمدارس، وقطع إمدادات الماء والكهرباء، وقصف المناطق التي أعلن هو نفسه بأنها “آمنة”، ناهيك عن استهداف الصحافيين الذي تجاوز ال 100 صحافي وطواقم الإسعاف وشاحنات الإغاثة. 

المحزن المبكي والمُحبط في آن واحد، أنه في مواجهة هذه الجرائم التي لم يسبق لها مثيل في العصر الحديث، تقف كل منظومة المجتمع الدولي التي يزعم بأنه أسّسها على احترامِ حقوق الإنسان وحقوق الطفل عاجزةً أمام حرب إبادة جماعيةٍ يصفها الكيان المحتل وداعموه من الدّول الغربية بأنها “حربٌ عادلة”، ودفاع مشروع عن النفس”، فالجرائم التي يرتكبها جيش الاحتلال في قطاع غزة، تسقط قيم ومبادئ القانون الدولي الإنساني، ولن ينهي الاحتلال حربه الشعواء على غزة إلا وستكون المنظومة الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان قد فقدت كل مصداقيتها وصارت بلا معنى.

إن الوضع الإنساني في غزة كارثي وفي تدهور مستمر نتيجة فشل مجلس الأمن إصدار قرار أقله هدنة إنسانية بسبب الفيتو الأميركي. هذا ويقدر مسؤولو الأمم المتحدة نزوح حوالي 1.9 مليون أو أكثر نصفهم من الأطفال. كما أعلنت وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين ” الأونروا” أن نحو 1.4 مليون من هؤلاء النازحين داخليا” يحتمون في مراكزها البالغ عددها 155 مركز، وان معظمهم يقيمون في الأجزاء الوسطى والجنوبية من غزة، وإن كل مركز يؤوي في المتوسط ما يزيد عن 12000 شخص، أي أكثر من أربعة أضعاف طاقته الاستيعابية. كما أبلغت منظمة اليونيسف عن إصابة 360.000 شخص بأمراض معدية ف هذه المراكز، من بينها التهاب السحايا وجدري الماء والتي أكدتها منظمة الصحة العالمية. وما زيد من طين الأزمّة بلّة أن مراكز الإيواء تتعرض أيضا” للقصف!

في الختام، إن ما يحصل في غزة من إبادة جماعية ما كان ليحصل لو طبقت القوانين الدولية بحق المعتدين، أقلها وقف العدوان وإحالة مجرمو الحرب إلى المحكمة الجنائية الدولية، وما كان ليحصل كل هذه التراجيديا الفلسطينية لو لم تكن المنظومة العربية غائبة عن المشهد، إن كان على الصعيد الرسمي أو على الصعيد الشعبي، فالعديد من الأنظمة العربية متماهية ومتواطئة مع الكيان الصهيوني، حيث المفروض وبالحد الأدنى حسب ما تقتضيه المصلحة القومية أن توقف هذه الأنظمة كل عمليات التطبيع والاتفاقيات التجارية مع العدو. أما على الصعيد الشعبي، فلم يصل التعبير إلى المستوى المطلوب من الضغط على الحكومات لتغيير موقفها من أحداث غزّة، فالشارع العربي الذي لم يعتد أن يكون صامتا” ومتفرجا” عند القضايا الكبرى، نراه اليوم خاملا” محبطا” ومطواعا” لسياسية الحكومات التي لا تسمن ولا تغني في القضايا العربية الكبرى واهمها القضية الفلسطينية، بينما نرى الشارع الغربي الذي لا تربطه أي روابط وطنية أو قومية مع المنطقة العربية، يملأ الشوارع ويُعلي الصوت في حالة ضغط على دوله لاتخاذ موقف ينقذ وينصف الشعب الفلسطيني، أم النخب الثقافية العربية فحدث ولا حرج، انها مفصولة عن الواقع وليس لهل أي دور في توعية وتثوير الشارع العربي، مكتفية بالانضواء تحت عباءة هذه الأنظمة المتخاذلة، ناهيك عن صمت المنظمات العربية لحقوق الإنسان منظمات المجتمع المدني على الساحة العربية على ما تشهده غزّة من إبادة.                                                    تبقى الحقيقة الثابتة أن فلسطين هي لأهلها ما طال الزمن أو قصر، وستُحرر بقوة وعزم وكفاح وثبات شعبها الثائر المتشبث بأرضه وحقوقه! فلا تعويل على الحكومات والأنظمة، بل على كفاح الشعب الثائر صاحب الحق بالأرض.

نكرر دوما” ما قاله المفكر العربي الأستاذ ميشال عفلق:

” فلسطين لن تحررها الحكومات، بل الكفاح الشعبي المسلح”

نعمت بيان – مستشارة المرأة والطفل في المنظمة العربية لحقوق الإنسان في الدول الاسكندنافية

Show More

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button