Site icon Arab Organization for Human Rights in Scandinavia

الكِلى مقابل رغيف الخبز !

وصلت الأحوال الإقتصادية في لبنان إلى درجة غير مسبوقة من الانهيار الكارثي، حيث وصل الفقر إلى مستويات خطرة جداً، التي بدورها أوصلت بعض الفئات من الناس لأن تضطر لبيع الكِلى مقابل الحصول على رغيف الخبز وحبة الدواء أو غيرها من الحاجات الأساسية للحياة. هذه الكارثة الاقتصادية/الاجتماعية التي لم يشهدها لبنان حتى في عزّ أزماته، ما كانت لتقع لولا سياسة  الهدر والنهب والفساد والمحاصصة والصفقات المشبوهة التي اتبعتها المنظومات السياسية المتعاقبة، أو بمعنى أوضح اتباع سياسة الانهيار الممنهج الذي فكك وعطل معظم مؤسسات الدولة ، لتقبض المافيات والميليشيات على مقدراتها بالكامل.  

هذا الوضع المأساوي والكارثي كان مدعاة لإهتمام المؤسسات والمنظمات الدولية (اقتصادية وحقوقية وانسانية)، التي حذرت من وصول الأمور إلى ما لا تُحمد عقباه . ومنظمة الإسكوا كانت إحدى هذه المنظمات التي رصدت الوضع الاقتصادي والمعيشي الذي وصل مرحلة خطيرة باتت تهدد البنيان الاجتماعي بأكمله، حيث أصدرت تقريراً  حديثاً عن حالة الفقر التي وصل اليها لبنان تحت عنوان :

الفقر المتعدد الأبعاد في لبنان (2019-2021)

ماذا يعني “الفقر المتعدد الأبعاد”؟

لقدعرّف تقرير الإسكوا “الفقر المتعدد الأبعاد”، على أن الفقر يُقاس من خلال قياس مستوى الدخل. ومع تطور البحوث والمسوح وتوفر البيانات المفصلة، اتسع مفهوم الفقر وأصبح يُقاس على نحو أكثر مراعاة للظروف المعيشية. ونشأ مفهوم الفقر الذي ينطوي على أوجه مختلفة من الحرمان التي لا تقتصر على البعد المادي. وأصبح يُعرف بالفقر المتعدد الأبعاد، ويُقاس بدليل اسمه “دليل الفقر المتعدد الأبعاد“. 

حالة الفقر في لبنان

باتت الشريحة الأوسع في لبنان ترزح خط الفقر المُدقع، رغم المبادرات المنفَّذة لصالح الفقراء ومنذ عام 2019، تتزايد حالات الفقر بفعل تراجع النشاط الاقتصادي وتدهور الاستقرار السياسي. وقد عرضّت الصدمات المتداخلة سعر الصرف الثابت منذ مطلع القرن، لضغوط هائلة، فانخفضت قيمة العملة لمستوى غير مسبوق، وتفاقم التضخم، وتقلصت القدرت الشرائية، وتعثّر الوصول إلى المدخرات بفعل الأزمة المالية.وأدت هذه الصدمات، متضافرة إلى إلى تدني المستوى المعيشي للسكان وغير اللبنانيين، وانتشار الحرمان بينهم ، حسب ما أورد التقرير.

ويكتسب هذا الحرمان أوجهاً متعددة، لعل أهمها الحرمان من الرعاية الصحية والحصول على الأدوية، والخدمات، والتعليم، والعمل، والمسكن، والأصول والممتلكات. وتصنف الأسرة بأنها تعاني من الفقر المتعدد الأبعاد في حال كانت تعاني من وجه واحد أو أكثر من  الحرمان، حتى وإن لم تكن فقيرة ماديا  . فالأسرة المحرومة من التيار الكهربائي، على سبيل المثال، يمكن أن تُصنف  فقيرة حسب مفهوم  الفقر المتعدد الأبعاد، وذلك رغم إمكاناتها المادية التي تخولها الإشتراك في مولد خاص للكهرباء في حال كان ذلك متاحا. وينطبق التصنيف عينه على الأسر العاجزة عن الحصول على الأدوية، رغم قدرتها المادية على شرائها إن توفرت. وعند قياس أوجه الحرمان في لبنان، تصل نسبة الفقر المتعدد الأبعاد، بحسب أرقام الإسكوا، إلى 82 في المائة.

حسب التقرير، تضاعفت نسبة الفقر المتعدد الأبعاد في لبنان من 42% في عام 2019 إلى 82% من مجموع السكان في عام 2021. وبلغ عدد السكان الذين يعانون من الفقر المتعدد الأبعاد 4.000.000 نسمة تقريباً. وهم يمثلون نحو مليون أسرة، بينها 77% من الأسر اللبنانية، أي ما يوازي 745.000 أسرة لبنانية تقريبا. وتُصنّف هذه الأسر بأنها تعاني من الفقر المتعدد الأبعاد إذا كانت محرومة من بُعدٍ واحد من أبعاد الدليل أو أكثر.

في بعض المناطق اللبنانية يسجل الفقر المُدقع المتعدد معدلات مرتفعة يمكن أن تقارب أو تتجاوز 50%. ويبين الجدول التالي نسبة عدد الأسر التي تعاني من الفقر المتعدد الأبعاد والفقر المُدقع المتعدد الأبعاد حسب المنطقة:

المنطقة        النسبة      عدد الأسر                       400.000      أسرة     في    فقر     مـــــــــدقع

بيروت               73%           (63000)                               بيروت        28.9%         (25.000)  أسرة

جبل لبنان         75%           ( 382000)                            جبل لبنان   26.5%       (133.000) أسرة

شمال لبنان       85%           (137000)                              شمال لبنان 32.6%        (50.000)  أسرة

عكار                 92%           (76000)                                 عكار            51.5%       (40.000)  أسرة

البقاع               91%           ( 69000)                                البقاع           43%          (32.000)   أسرة

بعلبك-الهرمل   92%           (57000)                                 بعلبك-الهرمل  49.3%    (30.000)  أسرة

جنوب لبنان     87%          (128000)                               جنوب لبنان    35.3%      (50.000)  أسرة 

النبطية            92%          (88000)                                النبطية            46.7%     (40.000)  أسرة

*دليل الفقر المتعدد الأبعاد في لبنان

يتألف دليل الفقر  المتعدد الأبعاد من 6 أبعاد و20 مؤشراً. وتُصنف الأسر بأنها تعيش في فقر متعدد الأبعاد إذا كانت محرومة من بُعدٍ واحد أو أكثر ، وأنها تعيش في فقر مدقع متعدد الأبعاد إذا كانت محرومة من بُعدين أو أكثر. وينطوي كل بُعدٍ على عدة مؤشرات.

الأبعاد والمؤشرات:

1.التعليم         : الحصول على التعليم، التحصيل العلمي، والالتحاق بالمدرسة.

2.الصحة             :  التأمين الصحي، الحصول على الدواء، والحصول على الخدمات الصحية.

3.الخدمات العامة: الكهرباء، مياه الشرب، مياه الصصرف الصحي، وجمع النفايات.

4.المسكن            : درجة الاكتظاظ، نوع السكن، وجود مرحاض.

5.الأصول والممتلكات: أصول الإنترنت وتكنولوجا المعلومات والاتصالات، وسائل النقل، أجهزة كهربائية منزلية.

6.العمل والدخل   : البطالة، العمل غير النظامي، الدخل.

نتائج الأبعاد والمؤشرات حسب دليل الفقر المتعدد الأبعاد

يبيّن الجدول المُدرج أدناه مساهمة كل بُعد من الأبعاد الستة في القيمة الإجمالية للدليل. وفي لبنان تسجل حصة بُعد المسكن مثلاً، أدنى قيمة مقارنة بأبعاد أخرى مثل الصحة.

1.التعليم                      14%

2.الصحة                    30%

3.الخدمات العامة       21%

4.المسكن                   4%

5.الأصول والممتلكات 13%

6.العمل والدخل        18 %

الرعاية الصحية والحصول على الدواء

1.الرعاية الصحية :

 ارتفعت نسبة الأسر الفقيرة المحرومة من الرعاية الصحية من 9% في عام 2019 إلى 33% في عام 2021، أي ما يوازي 400.000 أسرة من أصل 1.210.000 أسرة، في جميع المحافظات. ويُخشى أن يزداد الوضع سوءاً إذا رُفع الدعم لا سيما وأن 55% من السكان ليسوا مشمولين بأي شكل من أشكال التأمين الصحي.

2.الحصول على الأدوية

ارتفعت نسبة الأسر الفقيرة غير القادرة على الحصول على الدواء إلى أكثر من النصف (52%)، أي ما يعادل 630.000 أسرة.

3.الكهرباء : 

قبل تفاقم الأزمة الاقتصادية والسياسية في عام 2019، كانت بعض المناطق الجغرافية في لبنان أوفر حظاً من غيرها من حيث خدمات الكهرباء. أما اليوم، فباتت جميع المحافظات تشهد فترات انقطاع تصل أحياناً إلى اكثر من 22 ساعة يومياً. وارتفعت نسبة الأسر الفقيرة المحرومة من الكهرباء إلى 54%، أي ما يعادل 650.000 من أصل 1.210.000 أسرة. وأصبحت البدائل المتاحة لهذه الأسر الاشتراكات في المولدات الخاصة لتأمية خدمة الكهرباء، ذات كلفة باهظة، مما أدى إلى تراجع عدد المشتركين فيها وحجم استهلاك الكهرباء. ( هذا القطاع الذي أفلس الدولة وكبدّها نصف دينها العام نتيجة الهدر والسرقة التي اتبعها وزراء الطاقة منذ عام 2009 لتاريخ اليوم ).

4.العمل :

 في ظل تردّي الظروف الاقتصادية والمعيشية واتساع رقعة الفقر، تفاقمت هجرة الأدمغة من المهنيين بما يشمل الأطباء والمهندسين وغيرهم. وارتفعت نسبة الأسر الفقيرة المحرومة من فرص العمل إلى 13%، أي ما يوازي 160.000 أسرة.

5.التضخم ومستويات الدخل: 

 بلغت نسبة التضخم في لبنان 281% في الفترة بين حزيران/يونيو 2019 وحزيران/يونيو 2021. ونتيجة لهذا التضخم، قفز خط الفقر ليتجاوز الحد الأدنى للأجور، وأفضى ذلك إلى ارتفاع نسبة الفقر المادي من 29% عام 2019 إلى 55% عام 2020، حتى بلغ 74 % في عام.

6.التعليم : 

يشكل التعليم بُعداً هاماً من أبعاد الفقر المتعدد الأبعاد. وحالياً، يبلغ معدل الفقر المتعدد الأبعاد 63% في صفوف الطلاب الجامعيين، و87% بين الطلاب ذوي أدنى مستويات التحصيل العلمي. ونظراً إلى أن الأزمة الاقتصادية والاجتماعية غير المسبوقة في لبنان تطال جميع شرائح المجتمع، بلا استثناء، فقد تقلصت الفجوة في معدلات الفقر المتعدد الأبعاد بين الفئات في أعلى درجات التحصيل العلمي وأدناها.

الفئات السكانية المعرضة للخطر

-كبار السن : ارتفعت نسبة كبار السن الذين يعانون من الفقر المتعدد الأبعاد ارتفاعاً حادراً، من 44% عام 2019 إلى 78% عام 2021.

-النساء : من اللافت أن النساء والرجال يسجلون معدلات متساوية تقريباً من الفقر المتعدد الأبعاد. فهذه المعدلات تبلغ 81% في الأسر التي تعيلها نساء و80% في الأسر التي يعيلها رجال.

استجابات على مستوى السياسات

حسب تقرير الإسكوا، كانت للتقصير في اعتماد التدابير والسياسات اللازمة للحد من “الفقر المتعدد الأبعاد” في لبنان تداعيات جسيمة على الطبقة المتوسطة في العامين الماضيين. ويتطلب الحد الأدنى من هذه التداعيات تعاوناً من جميع مكونات المجتمع المدني اللبناني، ودعماً من المجتمع الدولي، وبيئة سياسية مناسبة. 

وتحقيقاُ لهذ الغاية، توصي الإسكوا بتنفيذ الاستجابات التالية على مستوى السياسات، وذلك على المديين القصير والمتوسط بـ :

1-إنشاء صندوق وطني للتضامن الاجتماعي، في إطار استجابة فورية للتخفيف من معاناة الشعب اللبناني والأزمة الإنسانية والفقر على المدى القصير. ويمكن تمويل هذا الصندوق من جهات محلية وخارجية. وفي عام 2020 ، قدّرت الإسكوا أنه يمكن لذوي الثروات في لبنان، ونسبتهم لا تتجاوز 10% من مجموع السكان، تسديد كلفة القضاء على الفقر، من خلال تقديم مساعدات سنوية لا تتعدى نسبة2% من ثرواتهم.

2-وضع خطط فعالة للحماية الاجتماعية تكون أكثر تلبية لاحتيجات الفقراء، لا سيما فئة السكان الذين يعيشون في فقر مُدقع. وينبغي وضع آلية شفافة لتحديد هذه الفئة، ودعمها، إما نقداً وإما من خلال بطاقة تموينية، مع ضمان توزيع الموارد بشكل عادل لا يتأثر بالمحسوبيات أو بالاعتبارات السياسية والطائفية.

3-تعزيز نظم الحماية الاجتماعية وتوسيع نطاقها لتشمل العاطلين عن العمل، والذين فقدوا وظائفهم مؤخراً نتيجة لتداعيات الأزمة الاجتماعية. ونظراً إلى القدرة المالية المحدودة في لبنان، يتطلب تنفيذ البرامج الاجتماعية والخطط الرامية إلى خلق الوظائف تمويلاً دولياً وإقيلمياً. في هذا الإطار، أشار تقرير الإسكوا أنه ينبغي إيلاء أهمية خاصة لكبار السن، لا سيما وأن مزايا الضمان الاجتماعي هي في الغالب المصدر الرئيسي للدخل المُتاح لكبار السن من ذوي الدخل المنخفض. وعلى واضعي السياسات، العمل لدعم العاملين المسنين ذوي الأجور المنخفضة، والأشخاص الذين هم على عتبة الشيخوخة.

4-دعم الأدوية المحلية الصنع لتمكين الفقراء من شرائها. ويجب تزويد الأشخاص الذين يعانون من الفقر المُدقع ببطاقة رعاية صحية تكون ممولة من القطاع العام وتغطي كلفة الدواء والخدمات الطبيية.ويمكن للمواطنين الآخرين الاستفادة من هذه الخدمات، وذلك على أساس الاشتراكات لضمان استدامتها.

5الخدمات :

الكهرباء:

 وضع خطة لزيادة انتاج الكهرباء، مع العمل على تحديث شبكات النقل والتوزيع، وإعادة هيكلة التعريفات على نحو يعكس الكلفة الفعلية للإنتاج، بما يضمن وصول الكهرباء إلى جميع اللبنانيين، ولا سيما الفقراء منهم.

– دعم الطاقة المتجددة، بما يشمل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والطاقة الحيوية والطاقة المائية، على المدى البعيد، والاستثمار في مزارع الطاقة المستدامة للإستخدامات الصناعية والعامة. وفي ضوء الحاجة الملّحة إلى النهوض بقطاع الكهرباء،  وأنه آن الأوان لوضع خطة عمل وطنية جريئة من أجل أن تتجاوز حصة الطاقة المتجددة من إجمالي استهلاك الطاقة نسبة ال 30% المرجو بلوغها بحلول 2030.

6العمل:

وضع خطة إنقاذ وطنية للنهوض بالقطاع الخاص ودعم الشركات الصغيرة جدا أو الصغيرة والمتوسطة، بهدف خلق وظائف جديدة والحد من تفشي البطالة.

في الختام، إن تقرير الإسكوا ليس التقرير الوحيد الذي أظهر بالأرقام  الصادمة حالة الفقر في لبنان، بل أن العديد من التقارير الدولية والصحفية الأخرى أظهرت وأنذرت بتداعيات الانهيار الاقتصادي في لبنان، الذي وصفته إحدى الصحف الأجنبية  ( وول ستريت جورنال) “بانهيار القرن” وإن اقتصاد لبنان قد لا يعود للتعافي قبل عقدين من الزمن

 كما وصف البنك الدولي هذا الإنهيار  بأنه ” أكبر ثلاثة انهيارات اقتصادية ظهرت منذ منتصف القرن التاسع عاشر”. وقد عمّقت كارثة انفجار مرفأ بيروت وتفشي فيروس كورونا هذا الإنهيار ، وباتت النسبة الأكبر من اللبنانين تحت خط الفقر وفق كل التقارير والدراسات والإحصاءات الوطنية والدولية، حيث فقدت الليرة اللبنانية أكثر من 90% من قيمتها مقابل الدولار الأميركي، وارتفعت الأسعار بأكثر من 700%، وتراجعت مستويات الخدمات (صحية، طاقة، مياه …) إلى أدنى مستوياتها، مما يؤدي إلى تفريغ البلد من موارده البشرية نتيجة الهجرة الواسعة للخبرات والكفاءات في الفترة الأخيرة.وسينحو الحال إلى الأسوأ والأخطر إذا  ما استمرت هذه الطغمة السياسية الفاسدة في اتباع سياسة الهدر والسرقة والمحاصصة وإضعاف سلطة الدولة ومؤسساتها والفتك بها، وإذا لم تُكف يد المافيات والميليشيات عن الإمساك برقبة البلاد والعباد!

نعمت بيان – مستشارة المرأة والطفل في المنظمة العربية لحقوق الإنسان في الدول الاسكندنافية

8/10/2021

Exit mobile version